الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد المقدسات! ويجب ان يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد الشعارات ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات..إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى؛ كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورًا متعددة؛ وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أيًا كانت أسماؤها.وأيًا كانت مراسمها.وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان.. وما إليها.. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى الله وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري.. أمة المسلمين من أتباع الرسل كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون..وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل كل في زمانه وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ولم يقل للعرب: إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود: إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي: إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب الرومي: إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي: إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقًا على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى، ومريم.. كما جاء في سورة الأنبياء: [آيات 48 91].هذه هي أمة المسلمين في تعريف الله سبحانه.. فمن شاء له طريقًا غير طريق الله فليسلكه. ولكن ليقل: إنه ليس من المسلمين! أما نحن الذين اسلمنا لله، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله. والله يقص الحق وهو خير الفاصلين..وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين.ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه:إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام، تذكر بعض الروايات انهم اثنا عشر، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عامًا كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن..إن هذه الحفنة وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون؛ وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض!وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك، وبذرة العمران فيها والإستخلاف من جديد.... وهذا أمر خطير.. إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها؛ والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة؛ كما تعاني من الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل.. إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلًا أمام هذا الأمر الخطير، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير!إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى.. شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعًا؛ كما يستحق منه سبحانه ان يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد!لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه، كما قال تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}..وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترونه عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه: {مغلوب} ويدعو ربه أن ينتصر هو وقد غُلب رسوله.. عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر} وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع الموهوب.. كان الله سبحانه بذاته العلية مع عبده المغلوب: {وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا.. جزاء لمن كان كفر..} هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية؛ وحين تغلبها الجاهليه!إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة.. وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان. فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى!: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها؛ وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه؛ وإلا أن تصبر حتى يأتي الله بأمره، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه، إلا فترة الإعداد والابتلاء؛ وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء.وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم..إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية. كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به فيدعوه: {أني مغلوب فانتصر} إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة.. إن الجاهلية تملك قواها.. ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله.والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية- حينما يشاء وكيفما يشاء وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب!وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله.. ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله. ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلمًا.. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة، والتدمير على البشرية الضالة جميعًا، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها..إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة وفق مشيئة الله الطليقة ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاَ أخرى، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها. وقد تدِق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائمًا، ويلابسون آثارها المبدعة.والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملًا، بكل ما في طاقتهم من جهد؛ ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة. وعندما يُغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح: {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} ثم ينتظروا فرج الله القريب. وانتظار الفرج من الله عبادة؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون.ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادًا كبيرًا.. إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن؛ ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطابًا مباشرًا به، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذوقته وأدركته وتحركت به.... والحمد لله في الأولى والآخرة.. اهـ.
.التفسير المأثور: قال السيوطي:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك رضي الله عنه: {تلك} يعني هذه: {من أنباء} يعني أحاديث.وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه قال: ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك} يعني العرب من قبل هذا القرآن.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} أي من قبل القرآن، وما علم محمد صلى الله عليه وسلم وقومه بما صنع نوح وقومه، لولا ما بيَّن الله عز وجل له في كتابه. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغيب}: كقوله: {ذلك مِنْ أَنَبَاءِ الغيب} [الآية: 44] في آل عمران. قوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا} يجوز في هذه الجملةُ أن تكونَ حالًا من الكاف في {إليك}، وأن تكون حالًا من المفعول في {نُوحيها} وأن تكونَ خبرًا بعد خبر. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} أعلمناكَ بهذه الجملة، وأنبأناك بهذه القصص لما خصصناك من غير أن تتعلمَه من شخص، أو من قراءةِ كتاب؛ فإِنْ قابَلَكَ قومك بالتكذيب فاصبِرْ، فَعَنْ قريبٍ تنقلب هذه الأمور. اهـ..التفسير الإشاري: .قال نظام الدين النيسابوري: التأويل: {ما نراك إلا بشرًا مثلنا} أي مخلوقًا محتاجًا مثلنا. وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفليًا فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون: {إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} والأراذل من اتباع الروح البدن والجوارح الظاهرة، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأفعال الشرعية، ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق.{وما أنا بطارد الذين آمنوا} من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح: إن ترد أن أومن بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف: {من ينصرني من الله} من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون: إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة: {أفلا تذكرون} أن جميعة الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع: {لن يؤتيهم الله خيرًا} أي استعدادًا لتحصيل الدرجات العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال: {وأنا بريء مما تجرمون} من التكذيب. وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئًا من ذنوب النفس متأسفًا على معاملات النفس وتتبع هواها: {وأوحي إلى نوح} الروح: {أنه لن يؤمن من قومك} وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه: {إلا من قد آمن} من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه. فأما النفس فإنها لا تؤمن أبدًا اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحيانًا دون الإيمان: {فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهبًا مقبولًا عند طرح الروح عليها، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيرًا عند طرح التوبة عليها: {أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم: {واصنع الفلك} اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} فإن الظلم من شيم النفوس: {إنهم مغرقون} في بحر الدنيا وشهواتها: {وكلما مر عليه ملأ} هم النفس وهواها وصفاتها: {يسخرون} من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها: {حتى إذا جاء أمرنا} وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة: {وفار} ماء الشهوة من تنور القالب: {قلنا احمل} في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها: كالشهوة وزوجها العفة. والحرص وزوجها القناعة، والبخل وزوجها السخاء، والغضب وزوجه الحلم، وكذا الحقد مع السلامة، والعداوة مع المحبة، والكبر مع التواضع، والتأني مع العجلة: {وأهلك} وهم صفات الروح لا النفس: {ومن آمن} وهم القلب والسر. وفي قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها باسم الله} إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتلقيد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقية كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله: {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42]: {في موج} من الفتن: {كالجبال ونادى نوح} الروح: {ابنه} كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب: {وكان في معزل} من معرفة الله وطلبه: {سآوي إلى جبل} العقل: {يعصمني من الماء} الفتن: {لا عاصم اليوم} أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة: {ابلعي} ماء شهواتك: {اقلعي} عن إنزال مطر الآفات: {وغيض} ماء الفتن ببركة الشرع: {وقضي الأمر} ما كان مقدرًا من طوفان الفتن للابتلاء والتربية، {واستوت} سفينة الشريعة: {على الجودي} وهو مقام التمكين بعد مقامات التلوين: {وإن وعدك الحق} وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من الرجوع إلى العالم العلوي: {إنه ليس من أهلك} وكان للروح أربعة بنين: ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل، وواحد كافر وهو النفس. فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية: {اهبط} من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن: {وأمم سنمتعهم} هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية: {ثم يمسهم} في الآخرة عذاب البعد عن المألوفات، {فاصبر} على تربية الروح والنفس: {إن العاقبة} لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى. اهـ..قال الألوسي: ومن باب الإشارة في الآيات: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} إلخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم نشاط المتكلم إذا لم يجد محلًا قابلًا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة، وقال سبحانه: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين: رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل: {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} [هود: 12] فكل الهداية إليه: {مَن كَانَ يُرِيدُ} بعمله الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة: {قَالُواْ لَن} كالجاه والمدح: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} أي جزاءها فيها إن شئنا: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15] أي لا ينقصون شيئًا منها: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار} لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} [هود: 16] من أعمال البر فلم ينتفعوا بها، وجاء «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» الحديث.{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} وهو القرآن المصدق لذلك، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية.ويحكم بكون الكشف صحيحًا إذا شهدت له ووافقته، ولذا قالوا: كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه: {إِمَامًا} يؤتم به في تحقيق المطالب: {وَرَحْمَةً} [هود: 17] لمن يهتدي به، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات؛ وقد ذكروا أن المراد بيان بعدما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.
|